[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]د. هاني بن عبدالله الجبيرمقدمة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد : فإن رباط القرابة والنسب على متانته وقوّته، وعلى ما يترتب عليه من واجبات وحقوق لهو أضعف من رباط الإيمان بين أهله "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ" [التوبة:71] فالمؤمن ينظر للمؤمن نظراته لأخيه "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " [الحجرات:10].
ويوضح نبينا عليه الصلاة والسلام حال أهل الإيمان فيشبههم بالجسد الواحد (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمّى والسَّهَر) (1).
وترجمة ذلك موجود في أفعال سلف الأمة، فقد نقل أن الرجل منهم إذا رأى أخاه يبكي بكى لبكائه ثم يسأله بعد ذلك عما أبكاه. يقول حذيفه العدوى: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شئ من الماء وأنا أقول إن كان به رمق سقيتة فإذا أنا به فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه، آه. فأشار إلىَّ ابن عمي: أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول: آه، آه، فأشار هشام أن أنطلق إليه، فجئت فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
والأخوة الإيمانية جزء أصيل من عقيدة الإيمان، ورتبة عالية من رتب الإسلام؛ ولذا كان جزاء هذه المحبه في الدنيا حلاوة يجدها المؤمن في قلبه تفوق كل لذة، وفي الآخرة يدخله الرحمن ظلا ظليلا. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) (2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) (3). قال ابن تيميه: (جعل الله عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض, وجعلهم إخوة, وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين وأمرهم سبحانه بالإئتلاف و نهاهم عن الإفتراق والاختلاف, فكيف يجوز مع هذه لأمة محمد أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادى طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى) (4).
ومن تأمل أحكام الشرع وجد مظاهر كثيرة تؤكد على أهمية الاتفاق والاجتماع، وتقضي على الفرقة والشتات فجمعت الناس في أنساكهم وصيامهم وصلاتهم أن يشرعوا فيها في وقت واحد ويختموها في وقت واحد وشرع الاصطفاف للصلاة والتواص، ونهى عن تفويت الجماعة في الصلوات إلى مظاهر من تأملها وتشبع بها انقادت تطبيقاته لمسائل الاجتهاد على هذا النحو وقد اختار الشافعي -رحمه الله- أن من فاتته الصلاة في مسجد له إمام راتب أن يصلي منفرداً أو لا يصلي في المسجد جماعة ثانية لما فيها من تفرق الكلمة والإختلاف(5).
قال الشيخ أحمد شاكر معلقاً على ذلك: والذي ذهب إليه الشافعي من المعنى في هذا الباب صحيح جليل ينبئ عن نظر ثاقب وفهم دقيق، وعقل درّاك لروح الإسلام ومقاصده، وأوّل مقصد للإسلام وأجلّه وأخطره: توحيد كلمة المسلمين وجمع قلوبهم على غاية واحدة: هي إعلاء كلمة الله، وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية ... وهذا الشيء لايدركه إلا من أنار الله بصيرته للفقه في الدين والغوص على درره والسمو إلى مداركه) (6).
الدعوة للاتفاق ليست إلغاء للخلاف: فالافتراق وصف مذموم في الشرع قال تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء" [الأنعام:59] وقد نهى الله تعالى عنه نهياً مطلقاً كما قال: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران:103] وقال: "أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" [الشورى:13] أما الاختلاف فإنه قد يكون رحمة، وأهله معذورون: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شرٍ عظيم من خفاء الحكم ولهذا صنف رجل كتاباً سماه: كتاب الإختلاف فقال أحمد: سَمّه كتاب السَّعَة، وإن الحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه، لما في ظهوره من الشدة عليه) (7). وقد وقع الخلاف بين السابقين من أفضل قرون هذه الأمة من الصحابة والتابعين ولم يوجب افتراقاً، ولذا لم يكن مذموماً ونقل الشاطبي جملة مما اختلف فيه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما هو من محالّ الاجتهاد ثم قال: (وغير ذلك مما اختلفوا فيه، وكانوا مع ذلك أهل مودة وتناصح وأخوه الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت الأهواء المردية التي حذر منها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وظهرت العداوات وتحزب أهلها، فصاروا شيعاً، دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه) (
.
وضابط التفرق أنه: تشتتت الشمل والكلمة. وهو بهذا يشل حركة المجتمع ويضعف المسلمين، ويمكن أعدائهم منهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها... وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا اصلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمةٌ والفرقة عذاب) (9).
أما الخلاف فإنه لا يذم متى كان في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد وإبداء الرأي وهو مالا يعارض قاطعاً من الكتاب والسنة وإجماع الأمة. سواء من مسائل العلم أو أوضاع الدعوة وأحوال العمل.
مع أن نبذا التفرق حتى ولو كان على خلاف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وارد إذا كن لقائله نوع تأويل كما حصل لابن مسعود -رضي الله عنه- لما أتم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الصلاة بمنى أربع ركعات خلافاً لما كان عليه رسول الله ل وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- فاسترجع ابن مسعود وقال: صليت مع رسول الله بأبي بكر وعمر بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. ثم صلى أربعاً فقبل له: عتبت على عثمان ثم صليت مع أربعاً، فقال: الخلاف شر(10).
ويلخص ابن القيم المعنى الذي نريده بقوله: (وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه وإلا إذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لابد منه في النشأة الإنسانية.
ولكن إذا كان الأصل واحداً والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة، فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد، وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة) (11).
وسائل تؤدي للاتفاق: ولتحصيل اجتماع الكلمة ووحدة الصف والاتفاق وسائل يمكن استلهامها من النصوص الشرعية والأقوال السلفية منها:
أولاً: الإنصاف مع المخالف:
فإن الاختلاف في الرأي لا يمكن أن يكون مؤدياً إلى فتنة، أو مورثاً لفرقة إلا إذا صاحبة بغى أو هوى كما قال تعالى: "وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن
بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا"[آل عمران:19]. والله تعالى مع أمره بعدم موالاة الكفار قال: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة:8]. قال ابن تيمية: (وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغضٌ مأمور به، فإن كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم) (12).
وإذا أنصف الإنسان حمله إنصافه على أن يعرف قدر الخطأ، فلا يعطيه أكبر من حقه، كما لا ينسى سابقة قائله، وظروفه التي حملته على فعله، ولا يغيبن عنك فعل حاطب بن أبي بلتعة وكيف أن عقوبته منع من ترتبها عليه مشهده العظيم يوم بدر، قال ابن القيم: (من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره ويعفى عنه ما لا يعفى من غيره فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.. وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أن من له ألوف الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين وكما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ***جاءت محاسنه بألف شيع ) (13)
وكذلك قد يكون العالم أو الداعية أو الأمير غير قائم بشيء من أحكام الشرع لعذر، فمن أنصف عذره، وقد ضرب ابن تيمية أمثلة لهذا فذكر النجاشي وأنه لم يعمل بكثير من شرائع الإسلام كالهجرة والجهاد والحج، كما أنه لم يحكم قومه بالقرآن لعدم استطاعته وذكر مؤمن آل فرعون ويوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر، ثم قال: (وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً بل وإماماً وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكن ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (14).
ومن أراد أن يتصور كيفية مراعاة الحال فليتأمل حديث الذي فقد دابته وهو في صحراء، فلما أيقن بالهلاك وجدها، فقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح) (15). فلم يؤاخذ مراعاة للظرف الذي ألمّ به حال تكلمه.
ثانياً: مراعاة المصالح والمفاسد:
إن من قواعد الشريعة تحمل أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات وأكبر الأصنام ولا يغيرها وترك المنافقين ولم يقتلهم مع ثبوت كفرهم لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
والتعامل مع كل مخالف منوط بهذه القاعدة، فلا يسوغ الرد عليه إذا ترتب على ذلك مفسدة أكبر. وقد نهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين لما ترتب على ذلك مفسدة أعظم من مصلحة سبها، قال تعالى: "وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ"[الأنعام:108]. قال ابن القيم: (إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذ كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله) (16). وفي امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن هدم الكعبة شاهد ظاهر لهذا.
وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية: (إذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف. وإلا بقى الإنسان في الظلمة فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية) (17). ولا يمكن تبين الصالح والفاسد وحقائقها إلا لمشارك في الحال، أما الناظر من بعيد فإنه لا يتصور ذلك على وجهه.
ومراعاة المصالح والمفاسد يتضمن ملاحظة الوقت الذي يعيشه الإنسان، وهل سيتعلق بكلامه أهل الفساد ليكون ذريعة لمآرب سيئة وهل سيُفهم على وجهه أم لا. وذلك كله مبني على قاعدة كبرى، وهي أن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لنفسها وإنما قصدت المصالح المترتبة عليها(18).
ثالثاً: معرفة لغة المتكلم وحقيقة رأيه:
فإذا جهل الإنسان حقيقة قول المتكلم ومقصده من اصطلاحاته حمله غير مقصوده، ولذا قال ابن تيمية: (وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم، وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم) (19).
وقال السبكي: (كثيراً ما رأيت من يسمع لفظةً فيفهمها على غير وجهها فيغير على الكاتب والمؤلف ومن عاشره واستن بسنته.. مع أن المؤلف لم يرد ذلك على الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل) (20).
ولما ذكر العلماء القوادم في باب القياس جعلوا منها استعمال اللفظ الغامض وطالبوا المتكلم بإظهار المراد منه ليمكن إبطاله أو التسليم به.
لعل من هذا الباب ما نُقل أن الإمام أحمد قال: ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فخرج بيننا.
وقد طبق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الضابط لما تناول قول الجنيد: التوحيد إفراد القدم من الحديث... فقال: (هذا الكلام فيه إجمال ، والمحق يحمله محملاً حسناً وغير المحق يدخل فيه أشياء... وأما الجنيد فمقصوده التوحيد الذي يشير إليه المشايخ، وهو التوحيد في القصد والإرادة وما يدخل في ذلك من الإخلاص والتوكل والمحبة... وهذا حق صحيح وهو داخل في التوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه) (21).
رابعاً: التثبت:
فالاستعجال في إصدار الأحكام تصرف يوقع صاحبه للزلل والخطأ، ولذا جاء الشرع بالأمر بالتثبت والتبيّن كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" [الحجرات:6] وقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً"[النساء:94].
والمراد بالتبيّن: التعرّف والتبصر والأناة وعدم العجلة حتى يتضح الأمر ويظهر، وهذا يحصل في النقل والمنقول. فأما النقل فبالتحقق من صدق الناقل وسلامته ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس مطية الرجل زعموا) (22).
قال الخطابي: (إنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا تثبت فيه ، وإنما هو شيء يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم صلى الله عليه وسلم من الحديث ما كان هذا سبيله وأمر بالتثبت فيه والتوثق لما يحكيه من ذلك فلا يرويه حتى يكون معزياً إلى ثبت ومروياً عن ثقة) (23). ولعلماء الرواية تقدير رائق في عدم قبول رواية المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل كقول بعضهم حدثني الثقة أو من لا أتهم(24).
ولذا قال ابن تيمية: (من أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسمّ القائل والناقل، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب) (25).
وأما المنقول فلا بد أن يتثبت الناقد أن المنقول لا وجه له في الصحّة يقتضي قبوله وهذا ما سبق في فهم كلام المتكلم وحقيقة مراده.
خامساً: التخلص من سلطة الأتباع
فعصا الأتباع مرفوعة على متبوعهم كلما خالف رغبتهم، أو عدل عن تقرير أبواه، أو فتوى أخذ بها، والمتبوع يخشى منهم الإنكار عليه والإنفضاض من حوله والتشنيع عليه، وهذه العصا تصد المتبوعين عن التآلف مع من سبق أن كان بينهم نوع خلاف والله المستعان.
سادساً: لزوم آداب الشرع
فإن في سلوك الأدب تخلصاً من آثار الخلاف السيئة ومنعاً لتضخمها وهذه الآداب كثيرة، منها:
(1) إحسان الظن بالمخالف فقد أمرنا الله بذلك "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" [الحجرات:12]، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً) (26).
(2) ومنها الخضوع للحق ولو نطق به الخصم كما قال الشافعي: ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته(27).
وشاهد هذا من المأثور قبول أبي هريرة لخبر الشيطان الكذوب وما روى النسائي أن حبراً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون والكعبة فأمرهم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة.
(3) الستر على المخطي فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الستر فقال: (ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه. ومن هذا أن يبين الخطأ دون التعرض لشخص المخطئ وهذا نهج أثري منقول في قول المصطفى في كثير من الأحوال، ما بال أقوام.
سابعاً: البحث في وسائل لتجاوز الافتراق
فإذا الاتفاق عمل وليس قول ومن اجتهد لبلوغه مع حسن القصد تيسر له أمره، كما قال تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا"[العنكبوت:69]، وهذه وسائل مقترحة يمكن بتفعيلها تجاوز الفرقة ، منها: إيجاد مرجعية تحكم في الخلاف وتفصل فيه ولابد لهذه المرجعية أن تكون سليمة الماضي، نظيفة السجلات حتى تكسب الاحترام والقبول.
وكذلك كثرة اللقاءات بين الأطياف المختلفة لتفعيل الود وكسر الحواجز المصطنعة بينهم بالمؤتمرات والندوات والحوارات والزيارات ونحوها.
ومنها: نشر الكلام عن أدب الخلاف وطريقة التعامل مع المخالف سواء عبر الكتابات والمشافهات، أو من خلال وسائل الإعلام، أو طريقة عملية في تربية النشئ في محاضن الدعوة والتعليم
المصدر:منتديات بيسان